الجمعة، 17 مايو 2013

عصر إسماعيل : الفصل الثاني : النهضة الوطنية في عهد سعيد باشا (يتبع)

سعيد باشا والي مصر





تنويه :
نظرا لثراء الفصل و ثراء عصر سعيد بما لا يمكن إغفاله من تفاصيل , فقد رأت المدونة تقسيمه الى عدة تدوينات لعدم الإخلال بأي تفاصيل أو حوادث مهمة .


أطلق المؤرخ على عصر سعيد باشا لقب عصر ظهور النهضة الوطنية , نظرا لإصلاحات سعيد المتعددة في معظم المجالات , و فيما يلي إقتباس مما كتبه عبد الرحمن الرافعي في مقدمة الفصل الثاني ( عصر اسماعيل - ط مكتبة الاسرة 2000 - ج1 - ص29 ) :
" و قوام هذه النزعة - نزعة سعيد الوطنية - أنه كان يميل بجوارحه إلى خير المصريين و رفاهيتهم و يعمل على تحريرهم من نير المظالم التي أصابتهم , و يخفف عنهم عبء الضرائب التي ينوؤن بها , و يبث فيهم روح الوطنية و يشجعهم على تقلد المناصب العالية في الجيش و الإدارة بعد أن كانت من قبل وقفا على الترك و الشراكسة . "


* نشأة سعيد باشا :
- هو إبن محمد علي , ولد عام 1822 , و نشأ محاطا بعناية و إهتمام أبيه .
- إختار له أبوه محمد علي باشا سلك البحرية , فإلتحق بالمدرسة البحرية و درس كباقي تلاميذها , و لما أتم دراسته صار قومندانا لإحدى البوارج الحربية المصرية التي ترفع علم مصر فوق البحار .
- يرى المؤرخ أن نشأة سعيد كفرد و كضابط من ضباط البحرية منحت شخصيته كثيرا من التواضع و بذرت فيه بذور الديمقراطية , و أعطته إيمانا راسخا بضرورة أن يطبق النظام على الكل كبر أو صغر شأنه , كما تعلم و عاش في الحياة العسكرية .
و يذكر المؤرخ أنه عندما عينه أبوه محمد علي معاونا لمطوش باشا ناظر المدرسة البحرية و قومندان الأسطول , أمره بأن يمتثل لأوامر قائده و أن يؤدي له التحية العسكرية .
- ترقى سعيد في البحرية مع مرور الوقت حتى وصل في أواخر عهد أبيه إلى منصب " سارعسكر الدوننمة " أي القائد العام للأسطول .

* تقييم المؤرخ لأخلاق سعيد :

- يذكر المؤرخ أن سعيد قد إتسم بطيبة القلب و سلامة القصد , و الكرم و الشجاعة و الصراحة و التسامح و الميل للخير و حب العدل و النفور من الظلم .
- و لكنه على الجانب الآخر يرى أنه كان ضعيف الإرادة كثير التردد لا يستقر على رأي واحد , هنا جاءت تقلباته في الخطط و البرامج و إنصياعه لآراء خلطائه من الأوروبيين .
- كما يرى المؤرخ أن من نقاط ضعف سعيد باشا إسرافه و إتجاهه للإستدانة من البيوت المالية (البنوك) الأوروبية , و حسن ظنه بالأوروبيين , و شدة ركونه إليهم , و ميوله الفرنسية تحديدا و التي إستغلها فرديناند ديلسبس و أمثاله ممن مثلوا المطامع الأوروبية في مصر .
- و في عهده بدأ النفوذ الأجنبي في مصر بالتوغل و التغول , فسيطر الأجانب على مرافق البلاد و تسلطوا على سلطات الحكومة و سيادتها , و صار للقناصل الأوروبيين نفوذا لم يكن لهم من قبله .

* إصلاحات سعيد الزراعية و اللائحة السعيدية : 

- كان تملك الأراضي محظورا على الفلاحين المصريين منذ عهد محمد علي و حتى بداية عهد سعيد , فكان أحد جهود سعيد باشا للإصلاح الزراعي و تحسين مستوى معيشة الفلاحين أن سن قانونا يخول الفلاحين حق الملكية العقارية للأراضي الزراعية , و عرف هذا القانون بإسم " اللائحة السعيدية " .
# اللائحة السعيدية : 
. صدرت في 5 أغسطس عام 1858م .
. تعد أعظم إصلاحات سعيد في المجال الزراعي , لأنها أساس التشريع الخاص بملكية الأطيان في القطر المصري في عهد الدولة الحديثة .
- كما ألغى نظام إحتكار الحاصلات الزراعية لحساب الدولة , الذي كان يقضي بحرمان الفلاحين من حق بيع محاصيلهم , و يضع يد الدولة على المحاصيل جبرا , و تشتريها من الفلاح بالسعر الذي تحدده بنفسها و ليس للفلاح حق الإعتراض أو رفض البيع , فصار للفلاحين حرية إمتلاك محصولهم و بيعه لمن يريدون بالثمن الذي يرتضونه لأول مرة منذ عهد محمد علي .
- كان على الأهالي من الفلاحين ضرائب متأخرة لسنوات نتيجة لفقرهم المدقع و سوء أحوالهم الإقتصادية , و كانت الدولة تصادر محاصيلهم مطالبة بهذه الضرائب المتأخرة , فقام سعيد باشا بإعفاء جميع الفلاحين من جميع المتأخرات الضريبية دفعة واحدة .
و ذكر المسيو " مريو " في كتابه (مصر الحديثة) أن جملة هذه المتأخرات كان قد بلغ 800 ألف جنيه , و هو مبلغ مهول في ذلك العصر .
- شجع سعيد الفلاحين على أن يقوموا بأداء الضريبة للدولة نقدا لا عينا من حر مالهم بعد بيعهم للمحاصيل , بدلا من النظام العيني القديم حيث كان الفلاحين يؤدون الضريبة بإقتطاع جزء من محصولهم تأخذه الدولة .
- قامت الإصلاحات السالف ذكرها بصنع وجود إقتصادي للفلاح مستقل عن الدولة بعد أن كان مستعبدا لها , فكان هذا الإستقلال أحد أسباب نهضة الفلاح إقتصاديا و إجتماعيا , و أدى إلى توقف الهجرة من القرى إلى المدن هربا من الفقر .
- كما ألغى أيضا ضريبة " الدخولية " التي كانت تأخذها الدولة على المحاصيل و السلع التي تنقل بين القرى و المدن لبيعها , و كانت تقدر ب12% من ثمن السلع المنقولة , و كان ملتزمي الضرائب الحكوميين يغالون في تقدير ثمن السلع فكانت هذه الضريبة قيدا على التجارة الداخلية في البلاد و سببا في الغلاء و الفقر , و نتج عن إلغاء سعيد لها تحرير التجارة الداخلية و إنخفاض ملحوظ في الأسعار .

* لائحة المعاشات :

- وضع سعيد باشا لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين , و هي أول أساس تشريعي لنظام المعاشات في مصر .

* إنجازات سعيد في مجال العمران و المدنية :

# تطهير ترعة المحمودية : 
. أنشأت ترعة المحمودية في عهد محمد علي , و لم تعن الحكومات المتعاقبة بتطهير قاعها من الطمي المتراكم على مر السنوات , مما جعلها غير صالحة لمرور السفن كما أنها لم تعد قادرة على ضخ المياه بالقدر الكافي لري الأراضي على ضفتيها.
. إعتزم سعيد باشا القيام بتطهير الترعة المحمودية و قام بإستشارة موجيل بك كبير المهندسين و كلفه بدراسة المشروع , فتوصل موجيل بك إلى أن مقدار الطمي المتوجب رفعه من قاع الترعة التي يبلغ طولها ثمانين كيلومترا هو ثلاثة ملايين متر مكعب , و قدر أن هذا العمل يحتاج إلى سبعة و ستين ألف عامل لإنهائه في ثلاثين يوما .
. أصدر سعيد أوامره إلى المديريات لتسخير سبعة و ستين ألف عامل لإرسالهم للعمل في المشروع , فقامت المديريات بإرسال 115 ألف عامل , فإنتهى العمل في 22 يوما .
. يذكر لسعيد تخصيصه لخدمة طبية عالية المستوى لعمال المشروع عن طريق أطباء مقيمين بموقع العمل لملاحظة الحالة الصحية للعمال و علاجهم , مما أدى إنتهاء المشروع بدون أي وفيات بين العمال , على خلاف ما حدث أثناء حفر الترعة في عصر محمد علي , و يذكر المسيو "مريو" في كتابه (مصر الحديثة - ص123) أن الإهتمام الطبي بعمال المشروع أدى إلى إنخفاض نسبة من مرضوا أثناء العمل إلى خمسة في الألف ( و هي نسبة عظيمة بمقاييس ذلك العصر ) .
. كما يذكر أن نجاح المشروع بهذه الطريقة قد لفت إنتباه فرديناند ديلسبس إلى إمكانية الإستعانة بتسخير العمال المصريين بهذه الطريقة لحفر مششروعه قناة السويس .

# السكك الحديدية و التلغراف : 

. توفي عباس قبل إتمام العمل بالخط الحديدي الأول بين الإسكندرية و القاهرة , و تم إفتتاح الخط في عام 1856 , و لم تكن هناك أي كباري قد بنيت على النيل بعد , فكان القطار عند عبوره لفرعي النيل يتم نقله على مراكب خاصة تعبر به من ضفة إلى أخرى .
. قام سعيد بإنشاء الخط الثاني للسكك الحديدية بين القاهرة و السويس , و تم إفتتاحه عام 1858 . عاد هذا الخط بفوائد جمة على السويس و مينائها , حيث أصبحت السفن تفرغ حمولتها و ركابها في السويس ليتم نقلهم عبر السكك الحديدية إلى الإسكندرية ليستكملوا طريقهم عبر البحر المتوسط . و أدى هذا الضغط في توافد السفن و الركاب و البضائع على ميناء السويس إلى شروع سعيد في إصلاح الميناء و تطويره .
. أنشأ خطوطا جديدة للتلغراف بين القاهرة و الإسكندرية و السويس على الطريقة الحديثة , بعد أن كان الموجود منها منذ عصر محمد علي على طريقة "شاب" القديمة .
# الآثار و الفلك : 
. قام بجمع الآثار المصرية في مخازن حكومية أعدت لها خصيصا بمنطقة بولاق , و عهد بهذه المهمة إلى مارييت باشاش العالم الأثري .
. قام بتكليف العلامة محمود بك (باشا) الفلكي برحلة إلى دنقلة بالسودان المصري لرصد كسوف الشمس بها , و إغتنم الفلكي باشا هذا الرحلة لتحقيق 42 موقعا فلكيا بين أسوان و دنقلة . كلف سعيد الفلكي باشا عند عودته من دنقلة بوضع أول خريطة مفصلة للقطر المصري , و إشترك مع الفلكي باشا في وضعها مجموعة من المهندسين المصريين .

* الإصلاحات الحربية :
- إنتماء سعيد باشا إلى السلك العسكري و تاريخه في البحرية جعلاه ميالا إلى الإهتمام بالجيش و أحواله , و كان كثيرا ما يقضي أيامه في معسكرات الجيش و تعرض عليه شئون الحكومة و هو وسط الجنود و الضباط .
- بذل جهدا كبيرا في ترقية شئون الجيش ماديا و معنويا .
- كانت الخدمة العسكرية في النظام القديم إجبارية على أبناء الطبقات الفقيرة فقط , و كان يعفى منها أبناء العمد و المشايخ و الأعيان , و كانت مفتوحة المدة , مما جعل الأهالي يتعاملون معها على أنها وبالا مما يلحق بالفقراء فقط , فكرهوها و كانوا يحاولن التهرب منها قدر ما إستطاعوا . فقام سعيد باشا بتحديد مدتها بسنة واحدة و جعلها إجبارية على الجميع بما فيهم أبناء العمد و المشايخ و الأعيان مثلهم مثل باقي أبناء الفلاحين .
- عمل على تحسين أحوال الجنود من مأكل و ملبس و معاملة حتى أصبحت أحوالهم أثناء الخدمة العسكرية أفضل من وجودهم في قراهم .
- أدى هذا إلى تقدم أحوال البلاد الإجتماعية بصفة عامة لأن المجندين عند إنتهاء مدة خدمتهم و عودتهم إلى القرى و النجوع , كانوا ينقلون إليها مبادئ النظام و النظافة التي تعلموها في الجندية .
- إهتم سعيد بإعطاء الضباط المصريين حقهم في الترقيات و المناصب العليا التي كانت محصورة على الأتراك و الشركس و الأرناؤوط في عهد عباس حلمي .
- نقل عنه أحمد عرابي باشا في كتابه ( مذكرات عرابي كشف الستار عن سر الأسرار - ص16 ) خطبة كان قد ألقاها في مأدبة بقصر النيل , تحدث فيها سعيد عن إعتباره لنفسه مصريا و أعلن عن عمله من أجل تمكين المصريين و تعليمهم و تدريبهم و جعلهم قادرين على الإستغناء عن خدمات الأجانب و تمكنهم من إدارة شئون بلادهم بأنفسهم , و أدى هذا إلى خروج المدعوين 
من الأمراء و الأجانب غاضبين حانقين و إلى خروج المصريين تغمرهم الفرحة و السعادة و الحماسة .
و نقتبس مما كتبه عرابي باشا " و على هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة . "
- أنشأ القلعة السعيدية بالقناطر الخيرية بحيث تستطيع الدفاع عن القاهرة إذا جاء الأعداء عن طريق النيل , و كان يقيم بها أحيانا.
- عاب سعيد في إدارته للجيش تخبطه و تغييره لخططه أكثر من مرة , و يذكر المؤرخ من هذا التخبط : 
. قام عام 1856 بصرف معظم الجيش و لم يبق إلا على 6 أورط من المشاة و 3 بلوكات من الفرسان و بلوكين من المدفعية , أي ما إجماليه عشرة آلاف مقاتل تقريبا .
. عام 1860 أعاد الجيش مرة أخرى و نظمه و دربه بسبب توتر العلاقات بينه و بين السلطنة العثمانية بسبب قناة السويس , و يقول إسماعيل باشا سرهنك في كتابه ( ج2 ص275 ) أن تعداد الجيش وصل حينها إلى 64 ألف مقاتل , ثم صرف معظم هذا الجيش مرة أخرى بعد إنتهاء الأزمة مع الأستانة .
. ذكر عنه فرديناند ديلسبس في كتابه ( وثائق عن تاريخ القناة - ج4 ص333 ) أنه قام بخفض أعداد الجيش من ستين ألفا إلى ثمانية آلاف لتوفير العمالة الكافية لحفر قناة السويس .


* البحرية : 

- بدأ سعيد في إصلاح الأسطول المصري بعد عودته من حرب القرم , فأمر بإصلاح سفنه و البدء في إنشاء سفن أخرى جديدة , و خشت إنجلترا و السلطنة العثمانية من عودة قوة مصر البحرية الكاسحة التي كانت في عصر محمد علي , فأصدر السلطان العثماني أمره إلى سعيد بالتوقف عن إصلاح السفن الحربية أو إنشائها , فإمتثل سعيد للأوامر للأسف .
- ذكر إسماعيل باشا سرهنك في كتابه ( ج2 ص271 ) أن سعيد عندما وجد معظم سفن الأسطول الراسية أمام دار الصناعة بالإسكندرية لا يمكن إستخدامها إلا بعد إصلاح جسيم هو ممنوع منه , أمر بتكسيرها و بيع أخشابها .
- كان هذا هو العصر الذي بدأت فيه الدول الأوروبية بإستبدال السفن الحربية الشراعية بالجديدة البخارية , و لكن مصر كانت متوقفة عن اللحاق بهذا التطوير بسبب إمتثال سعيد لأوامر السلطان العثماني بهذا الصدد , فتكونت فجوة فنية بين الأسطول المصري و نظرائه الأوروبيين لم تكن موجودة منذ عصر محمد علي . 


* الشركة المصرية للملاحة البخارية ( شركة الملاحة النيلية ) :

- هي أول شركة للملاحة النيلية , تأسست عام 1854 بغرض نقل البضائع و الركاب عن طريق النيل بالسفن البخارية , عوضا عن المراكب الشراعية و بطئها و معاكسة الرياح لها .
- كانت الشركة مصرية بالإسم فقط , فقد كانت جميع رؤوس أموالها أجنبية , كما لم يكن من بين أعضائها من المصريين سولى رئيسها الفخري ذو الفقار باشا وزير المالية الذي لم يكن له عمل فعلي بها , و كان باقي أعضاء مجلس إدارتها من القناصل الأوروبيين و الأجانب ذوي الحظية لدى سعيد باشا , و يرجح المؤرخ أنها أول شركة أجنبية أسست في عهد سعيد .
- كانت مدة إمتياز الشركة 15 عاما و كانت بواخرها ترفع العلم المصري بإعتبارها شركة مصرية .


* الشركة العزيزية ( شركة الملاحة البحرية ) :

- هي أول شركة للملاحة البخارية البحرية , تأسست عام 1857 برئاسة الأمير مصطفى فاضل إبن إبراهيم باشا , و تشكل مجلس إدارتها من خليط من المصريين و الأوروبيين .
- سميت " القومبانية المجيدية " نسبة إلى السلطان عبد المجيد سلطان الأستانة في ذلك الوقت .
- كانت بواخرها تقوم بنقل البضائع و الركاب و الحجاج في البحرين المتوسط و الأحمر و المحيط الهندي و الخليج الفارسي .
- كانت مدة إمتياز الشركة ثلاثون عاما , و بواخرها ترفع العلم المصري و تسوى منازعاتها أمام المحاكم التجارية المصرية لا أمام محاكم القنصليات الأوروبية .
- إضمحلت الشركة في أواخر عهد سعيد بسبب الفساد الإداري , و قامت الحكومة المصرية بتصفيتها في أوائل عهد إسماعيل , و أنشأ إسماعيل بدلا منها الشركة العزيزية كما سيجئ بيانه .


                                                                                                            يتبع

هناك تعليق واحد: