الجمعة، 17 مايو 2013

عصر إسماعيل : الفصل الثاني : النهضة الوطنية في عهد سعيد باشا (يتبع)

سعيد باشا والي مصر





تنويه :
نظرا لثراء الفصل و ثراء عصر سعيد بما لا يمكن إغفاله من تفاصيل , فقد رأت المدونة تقسيمه الى عدة تدوينات لعدم الإخلال بأي تفاصيل أو حوادث مهمة .


أطلق المؤرخ على عصر سعيد باشا لقب عصر ظهور النهضة الوطنية , نظرا لإصلاحات سعيد المتعددة في معظم المجالات , و فيما يلي إقتباس مما كتبه عبد الرحمن الرافعي في مقدمة الفصل الثاني ( عصر اسماعيل - ط مكتبة الاسرة 2000 - ج1 - ص29 ) :
" و قوام هذه النزعة - نزعة سعيد الوطنية - أنه كان يميل بجوارحه إلى خير المصريين و رفاهيتهم و يعمل على تحريرهم من نير المظالم التي أصابتهم , و يخفف عنهم عبء الضرائب التي ينوؤن بها , و يبث فيهم روح الوطنية و يشجعهم على تقلد المناصب العالية في الجيش و الإدارة بعد أن كانت من قبل وقفا على الترك و الشراكسة . "


* نشأة سعيد باشا :
- هو إبن محمد علي , ولد عام 1822 , و نشأ محاطا بعناية و إهتمام أبيه .
- إختار له أبوه محمد علي باشا سلك البحرية , فإلتحق بالمدرسة البحرية و درس كباقي تلاميذها , و لما أتم دراسته صار قومندانا لإحدى البوارج الحربية المصرية التي ترفع علم مصر فوق البحار .
- يرى المؤرخ أن نشأة سعيد كفرد و كضابط من ضباط البحرية منحت شخصيته كثيرا من التواضع و بذرت فيه بذور الديمقراطية , و أعطته إيمانا راسخا بضرورة أن يطبق النظام على الكل كبر أو صغر شأنه , كما تعلم و عاش في الحياة العسكرية .
و يذكر المؤرخ أنه عندما عينه أبوه محمد علي معاونا لمطوش باشا ناظر المدرسة البحرية و قومندان الأسطول , أمره بأن يمتثل لأوامر قائده و أن يؤدي له التحية العسكرية .
- ترقى سعيد في البحرية مع مرور الوقت حتى وصل في أواخر عهد أبيه إلى منصب " سارعسكر الدوننمة " أي القائد العام للأسطول .

* تقييم المؤرخ لأخلاق سعيد :

- يذكر المؤرخ أن سعيد قد إتسم بطيبة القلب و سلامة القصد , و الكرم و الشجاعة و الصراحة و التسامح و الميل للخير و حب العدل و النفور من الظلم .
- و لكنه على الجانب الآخر يرى أنه كان ضعيف الإرادة كثير التردد لا يستقر على رأي واحد , هنا جاءت تقلباته في الخطط و البرامج و إنصياعه لآراء خلطائه من الأوروبيين .
- كما يرى المؤرخ أن من نقاط ضعف سعيد باشا إسرافه و إتجاهه للإستدانة من البيوت المالية (البنوك) الأوروبية , و حسن ظنه بالأوروبيين , و شدة ركونه إليهم , و ميوله الفرنسية تحديدا و التي إستغلها فرديناند ديلسبس و أمثاله ممن مثلوا المطامع الأوروبية في مصر .
- و في عهده بدأ النفوذ الأجنبي في مصر بالتوغل و التغول , فسيطر الأجانب على مرافق البلاد و تسلطوا على سلطات الحكومة و سيادتها , و صار للقناصل الأوروبيين نفوذا لم يكن لهم من قبله .

* إصلاحات سعيد الزراعية و اللائحة السعيدية : 

- كان تملك الأراضي محظورا على الفلاحين المصريين منذ عهد محمد علي و حتى بداية عهد سعيد , فكان أحد جهود سعيد باشا للإصلاح الزراعي و تحسين مستوى معيشة الفلاحين أن سن قانونا يخول الفلاحين حق الملكية العقارية للأراضي الزراعية , و عرف هذا القانون بإسم " اللائحة السعيدية " .
# اللائحة السعيدية : 
. صدرت في 5 أغسطس عام 1858م .
. تعد أعظم إصلاحات سعيد في المجال الزراعي , لأنها أساس التشريع الخاص بملكية الأطيان في القطر المصري في عهد الدولة الحديثة .
- كما ألغى نظام إحتكار الحاصلات الزراعية لحساب الدولة , الذي كان يقضي بحرمان الفلاحين من حق بيع محاصيلهم , و يضع يد الدولة على المحاصيل جبرا , و تشتريها من الفلاح بالسعر الذي تحدده بنفسها و ليس للفلاح حق الإعتراض أو رفض البيع , فصار للفلاحين حرية إمتلاك محصولهم و بيعه لمن يريدون بالثمن الذي يرتضونه لأول مرة منذ عهد محمد علي .
- كان على الأهالي من الفلاحين ضرائب متأخرة لسنوات نتيجة لفقرهم المدقع و سوء أحوالهم الإقتصادية , و كانت الدولة تصادر محاصيلهم مطالبة بهذه الضرائب المتأخرة , فقام سعيد باشا بإعفاء جميع الفلاحين من جميع المتأخرات الضريبية دفعة واحدة .
و ذكر المسيو " مريو " في كتابه (مصر الحديثة) أن جملة هذه المتأخرات كان قد بلغ 800 ألف جنيه , و هو مبلغ مهول في ذلك العصر .
- شجع سعيد الفلاحين على أن يقوموا بأداء الضريبة للدولة نقدا لا عينا من حر مالهم بعد بيعهم للمحاصيل , بدلا من النظام العيني القديم حيث كان الفلاحين يؤدون الضريبة بإقتطاع جزء من محصولهم تأخذه الدولة .
- قامت الإصلاحات السالف ذكرها بصنع وجود إقتصادي للفلاح مستقل عن الدولة بعد أن كان مستعبدا لها , فكان هذا الإستقلال أحد أسباب نهضة الفلاح إقتصاديا و إجتماعيا , و أدى إلى توقف الهجرة من القرى إلى المدن هربا من الفقر .
- كما ألغى أيضا ضريبة " الدخولية " التي كانت تأخذها الدولة على المحاصيل و السلع التي تنقل بين القرى و المدن لبيعها , و كانت تقدر ب12% من ثمن السلع المنقولة , و كان ملتزمي الضرائب الحكوميين يغالون في تقدير ثمن السلع فكانت هذه الضريبة قيدا على التجارة الداخلية في البلاد و سببا في الغلاء و الفقر , و نتج عن إلغاء سعيد لها تحرير التجارة الداخلية و إنخفاض ملحوظ في الأسعار .

* لائحة المعاشات :

- وضع سعيد باشا لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين , و هي أول أساس تشريعي لنظام المعاشات في مصر .

* إنجازات سعيد في مجال العمران و المدنية :

# تطهير ترعة المحمودية : 
. أنشأت ترعة المحمودية في عهد محمد علي , و لم تعن الحكومات المتعاقبة بتطهير قاعها من الطمي المتراكم على مر السنوات , مما جعلها غير صالحة لمرور السفن كما أنها لم تعد قادرة على ضخ المياه بالقدر الكافي لري الأراضي على ضفتيها.
. إعتزم سعيد باشا القيام بتطهير الترعة المحمودية و قام بإستشارة موجيل بك كبير المهندسين و كلفه بدراسة المشروع , فتوصل موجيل بك إلى أن مقدار الطمي المتوجب رفعه من قاع الترعة التي يبلغ طولها ثمانين كيلومترا هو ثلاثة ملايين متر مكعب , و قدر أن هذا العمل يحتاج إلى سبعة و ستين ألف عامل لإنهائه في ثلاثين يوما .
. أصدر سعيد أوامره إلى المديريات لتسخير سبعة و ستين ألف عامل لإرسالهم للعمل في المشروع , فقامت المديريات بإرسال 115 ألف عامل , فإنتهى العمل في 22 يوما .
. يذكر لسعيد تخصيصه لخدمة طبية عالية المستوى لعمال المشروع عن طريق أطباء مقيمين بموقع العمل لملاحظة الحالة الصحية للعمال و علاجهم , مما أدى إنتهاء المشروع بدون أي وفيات بين العمال , على خلاف ما حدث أثناء حفر الترعة في عصر محمد علي , و يذكر المسيو "مريو" في كتابه (مصر الحديثة - ص123) أن الإهتمام الطبي بعمال المشروع أدى إلى إنخفاض نسبة من مرضوا أثناء العمل إلى خمسة في الألف ( و هي نسبة عظيمة بمقاييس ذلك العصر ) .
. كما يذكر أن نجاح المشروع بهذه الطريقة قد لفت إنتباه فرديناند ديلسبس إلى إمكانية الإستعانة بتسخير العمال المصريين بهذه الطريقة لحفر مششروعه قناة السويس .

# السكك الحديدية و التلغراف : 

. توفي عباس قبل إتمام العمل بالخط الحديدي الأول بين الإسكندرية و القاهرة , و تم إفتتاح الخط في عام 1856 , و لم تكن هناك أي كباري قد بنيت على النيل بعد , فكان القطار عند عبوره لفرعي النيل يتم نقله على مراكب خاصة تعبر به من ضفة إلى أخرى .
. قام سعيد بإنشاء الخط الثاني للسكك الحديدية بين القاهرة و السويس , و تم إفتتاحه عام 1858 . عاد هذا الخط بفوائد جمة على السويس و مينائها , حيث أصبحت السفن تفرغ حمولتها و ركابها في السويس ليتم نقلهم عبر السكك الحديدية إلى الإسكندرية ليستكملوا طريقهم عبر البحر المتوسط . و أدى هذا الضغط في توافد السفن و الركاب و البضائع على ميناء السويس إلى شروع سعيد في إصلاح الميناء و تطويره .
. أنشأ خطوطا جديدة للتلغراف بين القاهرة و الإسكندرية و السويس على الطريقة الحديثة , بعد أن كان الموجود منها منذ عصر محمد علي على طريقة "شاب" القديمة .
# الآثار و الفلك : 
. قام بجمع الآثار المصرية في مخازن حكومية أعدت لها خصيصا بمنطقة بولاق , و عهد بهذه المهمة إلى مارييت باشاش العالم الأثري .
. قام بتكليف العلامة محمود بك (باشا) الفلكي برحلة إلى دنقلة بالسودان المصري لرصد كسوف الشمس بها , و إغتنم الفلكي باشا هذا الرحلة لتحقيق 42 موقعا فلكيا بين أسوان و دنقلة . كلف سعيد الفلكي باشا عند عودته من دنقلة بوضع أول خريطة مفصلة للقطر المصري , و إشترك مع الفلكي باشا في وضعها مجموعة من المهندسين المصريين .

* الإصلاحات الحربية :
- إنتماء سعيد باشا إلى السلك العسكري و تاريخه في البحرية جعلاه ميالا إلى الإهتمام بالجيش و أحواله , و كان كثيرا ما يقضي أيامه في معسكرات الجيش و تعرض عليه شئون الحكومة و هو وسط الجنود و الضباط .
- بذل جهدا كبيرا في ترقية شئون الجيش ماديا و معنويا .
- كانت الخدمة العسكرية في النظام القديم إجبارية على أبناء الطبقات الفقيرة فقط , و كان يعفى منها أبناء العمد و المشايخ و الأعيان , و كانت مفتوحة المدة , مما جعل الأهالي يتعاملون معها على أنها وبالا مما يلحق بالفقراء فقط , فكرهوها و كانوا يحاولن التهرب منها قدر ما إستطاعوا . فقام سعيد باشا بتحديد مدتها بسنة واحدة و جعلها إجبارية على الجميع بما فيهم أبناء العمد و المشايخ و الأعيان مثلهم مثل باقي أبناء الفلاحين .
- عمل على تحسين أحوال الجنود من مأكل و ملبس و معاملة حتى أصبحت أحوالهم أثناء الخدمة العسكرية أفضل من وجودهم في قراهم .
- أدى هذا إلى تقدم أحوال البلاد الإجتماعية بصفة عامة لأن المجندين عند إنتهاء مدة خدمتهم و عودتهم إلى القرى و النجوع , كانوا ينقلون إليها مبادئ النظام و النظافة التي تعلموها في الجندية .
- إهتم سعيد بإعطاء الضباط المصريين حقهم في الترقيات و المناصب العليا التي كانت محصورة على الأتراك و الشركس و الأرناؤوط في عهد عباس حلمي .
- نقل عنه أحمد عرابي باشا في كتابه ( مذكرات عرابي كشف الستار عن سر الأسرار - ص16 ) خطبة كان قد ألقاها في مأدبة بقصر النيل , تحدث فيها سعيد عن إعتباره لنفسه مصريا و أعلن عن عمله من أجل تمكين المصريين و تعليمهم و تدريبهم و جعلهم قادرين على الإستغناء عن خدمات الأجانب و تمكنهم من إدارة شئون بلادهم بأنفسهم , و أدى هذا إلى خروج المدعوين 
من الأمراء و الأجانب غاضبين حانقين و إلى خروج المصريين تغمرهم الفرحة و السعادة و الحماسة .
و نقتبس مما كتبه عرابي باشا " و على هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة . "
- أنشأ القلعة السعيدية بالقناطر الخيرية بحيث تستطيع الدفاع عن القاهرة إذا جاء الأعداء عن طريق النيل , و كان يقيم بها أحيانا.
- عاب سعيد في إدارته للجيش تخبطه و تغييره لخططه أكثر من مرة , و يذكر المؤرخ من هذا التخبط : 
. قام عام 1856 بصرف معظم الجيش و لم يبق إلا على 6 أورط من المشاة و 3 بلوكات من الفرسان و بلوكين من المدفعية , أي ما إجماليه عشرة آلاف مقاتل تقريبا .
. عام 1860 أعاد الجيش مرة أخرى و نظمه و دربه بسبب توتر العلاقات بينه و بين السلطنة العثمانية بسبب قناة السويس , و يقول إسماعيل باشا سرهنك في كتابه ( ج2 ص275 ) أن تعداد الجيش وصل حينها إلى 64 ألف مقاتل , ثم صرف معظم هذا الجيش مرة أخرى بعد إنتهاء الأزمة مع الأستانة .
. ذكر عنه فرديناند ديلسبس في كتابه ( وثائق عن تاريخ القناة - ج4 ص333 ) أنه قام بخفض أعداد الجيش من ستين ألفا إلى ثمانية آلاف لتوفير العمالة الكافية لحفر قناة السويس .


* البحرية : 

- بدأ سعيد في إصلاح الأسطول المصري بعد عودته من حرب القرم , فأمر بإصلاح سفنه و البدء في إنشاء سفن أخرى جديدة , و خشت إنجلترا و السلطنة العثمانية من عودة قوة مصر البحرية الكاسحة التي كانت في عصر محمد علي , فأصدر السلطان العثماني أمره إلى سعيد بالتوقف عن إصلاح السفن الحربية أو إنشائها , فإمتثل سعيد للأوامر للأسف .
- ذكر إسماعيل باشا سرهنك في كتابه ( ج2 ص271 ) أن سعيد عندما وجد معظم سفن الأسطول الراسية أمام دار الصناعة بالإسكندرية لا يمكن إستخدامها إلا بعد إصلاح جسيم هو ممنوع منه , أمر بتكسيرها و بيع أخشابها .
- كان هذا هو العصر الذي بدأت فيه الدول الأوروبية بإستبدال السفن الحربية الشراعية بالجديدة البخارية , و لكن مصر كانت متوقفة عن اللحاق بهذا التطوير بسبب إمتثال سعيد لأوامر السلطان العثماني بهذا الصدد , فتكونت فجوة فنية بين الأسطول المصري و نظرائه الأوروبيين لم تكن موجودة منذ عصر محمد علي . 


* الشركة المصرية للملاحة البخارية ( شركة الملاحة النيلية ) :

- هي أول شركة للملاحة النيلية , تأسست عام 1854 بغرض نقل البضائع و الركاب عن طريق النيل بالسفن البخارية , عوضا عن المراكب الشراعية و بطئها و معاكسة الرياح لها .
- كانت الشركة مصرية بالإسم فقط , فقد كانت جميع رؤوس أموالها أجنبية , كما لم يكن من بين أعضائها من المصريين سولى رئيسها الفخري ذو الفقار باشا وزير المالية الذي لم يكن له عمل فعلي بها , و كان باقي أعضاء مجلس إدارتها من القناصل الأوروبيين و الأجانب ذوي الحظية لدى سعيد باشا , و يرجح المؤرخ أنها أول شركة أجنبية أسست في عهد سعيد .
- كانت مدة إمتياز الشركة 15 عاما و كانت بواخرها ترفع العلم المصري بإعتبارها شركة مصرية .


* الشركة العزيزية ( شركة الملاحة البحرية ) :

- هي أول شركة للملاحة البخارية البحرية , تأسست عام 1857 برئاسة الأمير مصطفى فاضل إبن إبراهيم باشا , و تشكل مجلس إدارتها من خليط من المصريين و الأوروبيين .
- سميت " القومبانية المجيدية " نسبة إلى السلطان عبد المجيد سلطان الأستانة في ذلك الوقت .
- كانت بواخرها تقوم بنقل البضائع و الركاب و الحجاج في البحرين المتوسط و الأحمر و المحيط الهندي و الخليج الفارسي .
- كانت مدة إمتياز الشركة ثلاثون عاما , و بواخرها ترفع العلم المصري و تسوى منازعاتها أمام المحاكم التجارية المصرية لا أمام محاكم القنصليات الأوروبية .
- إضمحلت الشركة في أواخر عهد سعيد بسبب الفساد الإداري , و قامت الحكومة المصرية بتصفيتها في أوائل عهد إسماعيل , و أنشأ إسماعيل بدلا منها الشركة العزيزية كما سيجئ بيانه .


                                                                                                            يتبع

السبت، 4 مايو 2013

عصر إسماعيل : الفصل الأول : الرجعية في عصر عباس باشا الأول

عباس باشا الأول 

 * عباس حلمي الأول : 
- تولى الحكم في عام 1848 م بعد وفاة إبراهيم باشا بن محمد علي , و و ظل في الحكم حتى مقتله بقصره ببنها عام 1954 م .
- هو عباس حلمي بن طوسون بن محمد علي , و هو أكبر أفراد الأسرة العلوية سنا بعد وفاة إبراهيم باشا , كما يقتضي نظام توارث العرش القديم .
- تقلد من المناصب الإدارية في عهد إبراهيم باشا منصب مدير الغربية , ثم تولى " الكتخدائية " التي هي بمثابة رئاسة الوزراء اليوم .
- إشترك مع إبراهيم باشا في الحرب السورية و قاد فيها أحد الفيالق .
- كان هناك خلاف بينه و بين عمه إبراهيم باشا بسبب ميل عباس حلمي إلى القسوة في معاملة الأهالي و إرهاقهم بالضرائب و الجبايات , و إحتد هذا الخلاف لدرجة أن إبراهيم باشا قد إضطره إلى الهجرة إلى الحجاز و ظل بها حتى وفاة إبراهيم باشا فعاد إلى مصر ليتولى الحكم طبقا لنظام التوارث القديم الذي يجعل ولاية الحكم للأرشد فالأرشد فالأرشد - الأكبر سنا - من نسل محمد علي , و تولى الحكم رسميا في 24 نوفمبر 1848 م .
- كان عباس حلمي الأول ميالا إلى العزلة , و قام ببناء العديد من القصور في أماكن نائية عن العمران و المدن , كقصر العباسية في صحراء العباسية - التي سميت على إسمه بعد بنائه القصر - و قصرا نائيا على الجبل في طريق القاهرة السويس المقفر , و قصرا بالعطف , و قصرا في بنها على ضفاف النيل بعيدا عن المدينة .

* علاقته برجالات الحكم في عصري محمد علي و إبراهيم و بباقي أسرة محمد علي : 
- كان دائما يشك في ولائهم له , فأساء معاملتهم حتى رحل الكثير منهم إلى الأستانة و أوروبا خوفا من بطشه بهم .
- وصلت خلافاته معهم لدرجة أنه حاول قتل عمته الأميرة نازلي هانم , فهاجرت إلى الأستانة خوفا على حياتها .
- حاول أن يغير نظام وراثة العرش ليجعل إبنه إلهامي باشا ولي عهده بدلا من عمه سعيد باشا , الذي كان وليا للعهد طبقا للنظام القائم .
- فشل في محاولة تغيير نظام وراثة العرش , فقام بإضطهاد ولي العهد عمه سعيد باشا و إتهمه بالتآمر عليه و إضطره إلى أن يلزم الإسكندرية و لا يغادرها , فأقام سعيد بسراياه هناك بالقباري , و ظل فيها حتى مقتل عباس .
- بدأت في عهده الدسائس و الفتن و الجاسوسية بين الأمراء و رجال الحكم و إنتشرت الوشاية , و كان ينفي من يغضب عليه إلى أقاصي السودان و يصادر أملاكه .

* السياسات العامة في عصر عباس باشا الأول :
- تضاءل النفوذ الفرنسي في عهده و قام بإقصاء الخبراء من كبار رجال الموظفين الفرنسيين و إستغنى عن خدمات بعضهم .
- على الجهة الأخرى بدأ النفوذ الإنجليزي في الظهور لأول مرة في مصر على يد القنصل البريطاني في مصر , و هو المستر " مرى " , و قيل أن سبب نفوذه لدى عباس باشا هو محاولة الأخير الإستعانة به و بالنفوذ الإنجليزي عامة لدى الباب العالي في الأستانة لتغيير نظام وراثة العرش الذي تم إقراره بعد معاهدة لندن 1841 م , حتى يؤول عرش مصر من بعده إلى إبنه إلهامي باشا , و في روايات أخرى كي يستعين بالنفوذ الإنجليزي لمنع تدخل الأستانة في شئون مصر مما يمنحه المزيد من السلطات على البلاد .
- قام بإصلاح طريق القاهرة السويس و قام برصفه و تعبيده , و كانت هذه الفكرة بإيعاز من القنصل البريطاني , و كان غرض الإنجليز من هذه الفكرة تسهيل الطريق البري بين إنجلترا و مستعمراتها في الهند عن طريق مصر . - و كانت إنجلترا في هذا الوقت تعارض مشروع قناة السويس حتى لا تسهل على فرنسا و منافسيها الآخرين من الدول الإستعمارية نقل قواتها و أساطيلها إلى البحر الأحمر و المحيط الهندي مما يؤدي إلى تهديد السطوة الإنجليزية على مستعمراتها في الهند - .
- إستمرارا لنفوذ القنصل البريطاني , شرع عباس باشا عام 1852 م في مد خط للسكك الحديدية بين الإسكندرية و القاهرة - و هو أول خط في مصر على الإطلاق - و عهد بتخطيط المشروع إلى المهندس الإنجليزي الشهير بوبرت ستيفنسون , و قام بتنفيذ المشروع المهندسين المصريين الأوائل , و منهم : سلامة باشا إبراهيم و ثاقب باشا و مظهر باشا .
- تم إنشاء الخط الثاني للسكك الحديدية في مصر عام 1854 م بين الإسكندرية و كفر الزيات .
- يعتبر مشروع السكك الحديدية هو أعظم مشاريع العمران في عهد عباس , و يحسب له أن هذا الخط كان أول خط خارج أوروبا و أمريكا , لدرجة أن السلطان عبد العزيز - السلطان العثماني - عندما زار مصر عام 1863 في عهد إسماعيل باشا و ركب القطار من الإسكندرية إلى القاهرة , كانت أول مرة في حياته يري فيها قطارا بخاريا يمشي على سكك حديدية , و أبدى عجبه من هذا الإختراع .
- إهتم عباس باشا بملف الأمن الداخلي , و قام بإستهداف المجرمين و قطاع الطرق مما أدى إلى إستتباب الأمن في ربوع مصر.
- تدهور ملف التعليم في عهده و قام بإقفال معظم المدارس الموجودة , فلم يبق منها سوى أعداد بسيطة , كما قام بالتحجج بإنشاء مدرسة إبتدائية في الخرطوم و قام بإبعاد رموز العلم و المعرفة في مصر إلى السودان , منهم : رفاعة بك رافع - فاعة الطهطاوي - و محمد بيومي أفندي و دقلة أفندي , و ساءت حالتهم المعنوية هناك جراء ذلك الإضطهاد , و قد توفي هناك محمد بيومي أفندي كبير أساتذة الهندسة و الرياضيات في مدرسة المهندسخانة .
- إنتقى عباس من تلاميذ المدارس التي أغلقها عددا منهم و أدخلهم مدرسة " المفروزة " التي أنشأها عام 1849 , و قام بإغلاق ما تبقى من المعامل و المصانع التي أنشأها جده محمد علي بحجة الإقتصاد في النفقات .
- قام بإرسال 19 طالبا من تلاميذ المدارس المصرية في بعثات إلى أوروبا , و لكنه قام بإستدعاء معظم أعضاء البعثات الذين كانوا يتلقون العلم في فرنسا منذ عهد محمد علي .
- لم يكن مهتما بشئون السودان و قام بإهماله و إعتبره مجرد منفى نائي لمن يغضب عليهم , لدرجة أنه لم يزر السودان و لا مرة طوال فترة حكمه .

* الجيش و البحرية : 
- قام ببعض الإصلاحات الحربية التي كان قد خطط لها إبراهيم باشا قبل وفاته , مثل تجديد الإستحكامات - التحصينات - و إنشاء الطرق الحربية .
- تسرب في عهده الخلل و عدم النظام إلى إدارة الجيش على يد الأرناؤوط - الألبان - , الذين أدمج عباس منهم نحو ستة آلاف في الجيش المصري و سلحهم بالمسدسات , و كانوا هم أصحاب السلطة المطلقة في الجيش المصري في عهده .
- ظل سليمان باشا الفرنساوي القائد العام للجيش المصري كما كان في عهد إبراهيم باشا , و لكن لم يترك له عباس حلمي صلاحيات كافية للحفاظ على الجيش أو إصلاحه .
- تدهورت حالة القوات البحرية في عهده , فأوقف الترسانة عن العمل مما أدى إلى إيقاف إصلاح السفن و صيانتها الدورية , و يرجح إهماله الشديد للبحرية على أنه جزء من كراهيته لعمه سعيد باشا وريث العرش بعده , لأنه كان من رجال البحرية و كان القائد العام للأسطول المصري في عصر محمد علي .

* إشتراك مصر في حرب القرم :
- هي الحرب الوحيدة التي خاضتها مصر في عهد عباس .
- نشبت حرب القرم عام 1853 م بين السلطنة العثمانية و روسيا القيصرية , فطلب السلطان عبد المجيد من عباس باشا أن يمده بالجيش و الأسطول المصري .
- إستجاب عباس لطلب السلطان العثماني , و قام بإعادة العمل إلى الترسانة البحرية و إستدعى إليها عمالها الذين كانوا قد صرفهم من قبل , و قام بتجهيز الأسطول المصري , و عهد بقيادته إلى الأميرال حسن باشا الإسكندراني و هو أحد خريجي البعثات في عصر محمد علي .
- تشكلت الحملة العسكرية المصرية المشاركة في الحرب من عشرين ألف مقاتل بقيادة سليم باشا فتحي أحد القادة الذين حاربوا تحت لواء إبراهيم باشا في حروب سوريا و الأناضول , و أقلعت من الإسكندرية على ظهر سفن الأسطول المصري و في حمايته .
- عندما وصلت الحملة المصرية إلى ميدان القتال في " ساستريا " على نهر الدانوب , أقامت هناك حصنا عرف بطابية العرب .
- كان الروس يشنون هجمات شرسة على المنطقة و لكن القوات المصرية نجحت في التصدي لموجات الهجمات الروسية , و تمكنت من الدفاع عن المنطقة و منع الجيش الروسي من دخولها حتى نهاية الحرب في عهد سعيد باشا .

* تجنبه للنفوذ الأجنبي و الإقتراض من الخارج : 
- يحسب لعباس باشا عدم تمكينه للأجانب في البلاد و حافظ على البلاد من التدخل الأجنبي , و لم يقم بمنح الأجانب أي إمتيازات تقريبا على عكس خلفئه سعيد و إسماعيل و توفيق .
- كما يحسب له أنه لم يقترض من الخارج أبدا , و كان يجتهد لسد عجز الميزانية بدون اللجوء للقروض الأجنبية التي كبل بها خلفاؤه البلاد من بعده .

* مقتل عباس : 
- قتل عباس باشا في قصره ببنها ليلة 14 يوليو عام 1854 م , و لتفاصيل مقتله أو سببه روايتان , أحدهما رواية إسماعيل باشا سرهنك - ناظر المدرسة الحربية - في كتابه " حقائق الإخبار عن دول البحار " , أما الرواية الثانية فهي لمدام أولمب إدوار الفرنسية التي سمعت الرواية في مصر في أوائل عهد إسماعيل و قامت بنشرها بعد ذلك في كتابها " كشف الستار عن أسرار مصر " .
- تقول رواية إسماعيل باشا سرهنك أن عباس كان قد عاقب بعضا من مماليكه الأرناؤوط - الألبان - بناءا على وشاية وصلته ضدهم , فقام بجلدهم و جردهم من رتبهم العسكرية و أرسلهم لخدمة الخيول بالإسطبلات .
- ثم توسط لهم مصطفى باشا أمين خزانة عباس , فقام عباس بإصدار عفو عنهم و ردهم إلى مناصبهم , فتظاهروا بالسفر إلى قصره ببنها للقيام بتوجيه شكرهم له لعفوه عنهم , و لكنهم كانوا قد قرروا الإنتقام لما لحق بهم من العقاب و المهانة . فتآمروا مع إثنين من خدم السراي هم عمر وصفي و شاكر حسين .
و كان من عادة عباس أن يحرسه إثنان من مماليكه من خدم السراي عند نومه , و في 14 يوليو 1854م كان القائمان على حراسته هما الخادمين المتآمرين مع المماليك الساعين للإنتقام , فقاموا بفتح أبواب مخدع إسماعيل لهم و فروا هاربين و تولى المماليك قتله بأنفسهم .
- أما رواية مدام أولمب إدوار فتقول أن عمة عباس الأميرة نازلي هانم التي فرت إلى الأستانة بعد محاولته قتلها , قد قامت بإرسال مملكوين من أتباعها لقتله , فعرضا نفسيهما في سوق الرقيق بالقاهرة و قام وكيل عباش بشرائهما و ألحقهما بالخدمة في سراي بنها , و عندما جاء دورهما لحراسة عباس أثناء نومه قاما بقتله ثم فرا هاربين إلى سيدتهما في الأستانة .

إفتتاحية السلسلة الأولى : كتاب " عصر إسماعيل " للعلامة المؤرخ " عبد الرحمن الرافعي "


الخديوي إسماعيل باشا
المؤرخ عبد الرحمن الرافعي

يعتبر عصر إسماعيل من أزهى عصور مصر الحديثة تقدما و إزدهارا و إتساعا لرقعة الأراضي المصرية , و يعتبر أيضا في نفس الوقت أكثر العصور إهدارا للمال في بذخ و سفه غير عادي , مما لم يؤدي فقط إلى ضياع مكتسبات عصر إسماعيل , و إنما أدى إلى ضياع مكتسبات عصر جده العظيم باني مصر الحديثة محمد علي باشا .
و يعد هذا التناقض سببا وجيها في رأي المدون عن إستحقاق هذا العهد بنجاحاته و إخفاقاته لأن يكون ما تبدأ به المدونة الأهلية للتاريخ المصري عملها و محاولتها في إحياء الذاكرة القومية لهذه البلاد العزيزة , التي لا يتخيل أبناؤها القدر الذي كانت عليه من العظمة و القوة و السطوة حتى عهود قريبة .

إختارت المدونة كتاب العلامة عبد الرحمن الرافعي أحد أعظم مؤرخي مصر الحديثة , " عصر إسماعيل " ليكون نافذة للمدونة على هذا العصر , و فيما يلي نبذة عن شخصية المؤرخ , مأخوذة عن مقدمة الكتاب طبعة مكتبة الأسرة و كاتبها هو السيد ؟ كامل زهيري .


" إن لكل أمة صفحة من الحياة القومية تحتوي على تاريخ الجهود التي بذلتها , و الآلام التي عانتها في سبيل حريتها ,  تلك الصفحة أول ما تعنى كل أمة بتدوينها , ففيها ذكريات لجهاد الماضي , و عبر لجهاد الحاضر , و عظات لجهاد المستقبل , و فيها بيان لنصيب الأجيال المتعاقبة في أدوار الأمانة القومية , تلك الأمانة المقدسة "
                                                                                                 عبد الرحمن الرافعي

" و إذا كان القصص وسيلة من وسائل نشر المبادئ الصالحة و الأفكار السامية و العواطف , فأجدر بالتاريخ - و هو قصة واقعية - أن يكون وسيلة للنهوض بالعقول و الأفكار , و نضج القرائح , و السمو بأخلاق الجيل , و توجيه المواطنين إلى المثل العليا في الحياة القومية ""
                                                                                                  عبد الرحمن الرافعي

* عبد الرحمن الرافعي ( 1889 م - 1966 م )
بدأ الكتابة في أول كتبه عام 1929 م , و واصل مشوار التأريخ قرابة الثلاثين عاما , نشر فيهم أربعة عشر مجلدا , و هي :
- 1929 تاريخ الحركة القومية و تطور نظام الحكم  \ جزئين
- 1930 عصر محمد علي
- 1937 عصر إسماعيل  \ جزئين
- 1939 الثورة العرابية و الإحتلال الإنجليزي
- 1941 محمد فريد , رمز الإخلاص و التضحية
- 1942 مصطفى كامل
- 1946 الثورة المصرية 1919  \ جزئين
- 1947 في أعقاب الثورة المصرية  \ ثلاثة أجزاء , آخرها 1951
- 1957 مقدمات ثورة 23 يوليو عام 1952
- 1959 ثورة يوليو سنة 1952 , تاريخنا القومي في سبع سنوات , 1952 - 1959

كان عبد الرحمن الرافعي نائبا في مجلس النواب و عضوا في مجلس الشيوخ و وزيرا و محاميا و صحفيا , و توفي عام 1966 م .


من مزايا تأريخ الرافعي لعصر الخديو إسماعيل , وفرة الوثائق و المراجع و الصحف و الكتب و مذكرات المعاصرين من رجال الدولة و الأجانب ذوي الحيثية لهذه المرحلة من حياة مصر الحديثة , بالإضافة إلى ألمعية الكاتب و دقته و مثابرته , فجاء كتابه ليكون أدق ما تمت كتابته عن هذا العصر .

يتكون كتاب " عصر إسماعيل " من سبعة عشر فصلا , ستخصص المدونة لكل فصل منهم تدوينة , و هم :
- الفصل الأول : الرجعية في عهد عباس الأول
- الفصل الثاني : النهضة الوطنية في عهد سعيد باشا
- الفصل الثالث : عصر إسماعيل
- الفصل الرابع : قناة السويس
- الفصل الخامس : السودان في عهد إسماعيل
- الفصل السادس : الجيش
- الفصل السابع : البحرية
- الفصل الثامن : حروب مصر في عهد إسماعيل
- الفصل التاسع : التعليم و النهضة العلمية و الأدبية
- الفصل العاشر : أعمال العمران
- الفصل الحادي عشر : مأساة الديون
- الفصل الثاني عشر : الحركة الوطنية و الحياة النيابية
- الفصل الثالث عشر : ختام النزاع بين الخديو و الدائنين
- الفصل الرابع عشر : نظام الحكم
- الفصل الخامس عشر : الحالة المالية و الإقتصادية
- الفصل السادس عشر : الحالة الإجتماعية
- الفصل السابع عشر : شخصية إسماعيل و الحكم على عصره

الجمعة، 3 مايو 2013

إفتتاحية المدونة

" إن دراسة التاريخ و قراءته , تجعل القارئ أكثر عقلا "                                                                             
                                                        عبد الرحمن الجبرتي

من الحسرة أن تفاخر أمة كأمريكا - التي لم تظهر في التاريخ حتى نصف قرن مضى من عمر الإنسانية - بتاريخها القصير , و الذي تدفع فيه أتفه الحوادث دفعا ليتم تصويرها على أنها محطات تاريخية مجيدة شكلت التاريخ و الوجدان الأمريكي , بينما نرى أمة كالأمة المصرية التي بزغ من خلالها التاريخ و الحضارة الإنسانية كما نعرفها , يكاد أبناؤها لا يعون شيئا عن تاريخ أجدادهم و تاريخ هذه البلاد العظيمة التي عرف الإنسان على أرضها الحضارة بكل ما تحمله الكلمة من معان .
إن تاريخ الأمة هو ما يصنع شخصيتها القومية , و تزرع المعرفة به بذور الإنتماء و الوطنية و المواطنة بداخل أبنائها لتثمر و تتحول إلى ما يعرف بالحس الوطني أو المسئولية الوطنية .
إن شعبا لا يعرف تاريخه بالتأكيد لا يشعر بقيمة حاضره سلبا أو إيجابا و لا يقدر على إستقراء مستقبله .

و قد كان المجتمع المصري عارفا بقيمة تاريخه الحديث منه و القديم و على قدر كبير من الفخر به , و يدل على هذا وجود المؤرخين المعروفين و كثرة دارسي التاريخ و المهتمين به و الوجود الكثيف لكتب و مراجع التاريخ نفسها , منذ منتصف القرن التاسع عشر و حتى انقلاب يوليو العسكري 1952 , الذي وضع نهاية للدولة المدنية و لم يكتف بعسكرة الدولة و أجهزتها , و إنما إنجر هذا إلى عسكرة شاملة للمجتمع بأكمله , فقل الفكر و التفكير و القراءة و البحث و التأمل , و زاد الجهل و عدم الوعي و الثقافة السمعية و الإنكفاء على لقمة العيش و مستقبل الأبناء الإقتصادي , بغض النظر عن مستقبل الوطن الذي سيعيش فيه أولئك الأبناء , و هذا أحد أوجه قصر النظر الذي أصاب الشخصية المصرية بسبب إبتعادها عن الحس القومي و القراءة و الثقافة العامة و أوجه المجتمع المدني بصفة عامة , و إستسلامها للعسكرة و الإستبداد و البيروقراطية و الجهل .

إن تاريخ الإنسانية بأكملها يكاد يكون عبارة عن حلقات مفرغة تدور بها الأمم على مختلف العصور , كل أمة تدور في الدائرة التي تفرضها عليها مراحل تطورها و تطور مجتمعها و مدى تعلمها من أخطاء الماضي و إستعدادها لتلافيها في المستقبل , و على حسب قدرة كل أمة على التعاطي مع العوامل السابق ذكرها , تكون الدائرة التي تدور فيها أو عليها , فيرتفع شأن أمم تتعلم من ماضيها , و تخسف الأرض بأمم لا تنظر إلا تحت أقدامها و لا تعي ما جرها إلى مصائبها و كبواتها و لا تمل من تكرار أخطائها المجتمعية و القومية .

هذه المدونة , ما هي إلا محاولة لإيجاد مصدر مستقل مجاني على الإنترنت لما تيسر للمدون من إيجازه و تسليط الضوء عليه من محطات تاريخنا القومي المجيد , راجين من الله أن يجعلها مصدر فائدة و لو بسيطة للمدون و القراء , و نقطة ضوء في ظلام ثقافتنا التاريخية التي أظلمناها على أنفسنا كمجتمع بإهمال هذا المكون الرئيس في شخصيتنا القومية ... التاريخ .